مقدمة:
ما زالت داعش تشكل تهديداً جدياً يتطلب فهمآ ومعالجة شاملة حتى بعد أكثر من ثلاثة أعوام على دحرها. مثلت محاولة هروب مساجين منتسبين لداعش من سجن غويران في الحسكة في يناير ٢٠٢٢ مناسبة للتذكر أن خطر داعش مازال ماثلاً بظل أسود. من غير المعروف إلى الآن كم عدد المساجين الهاربين، لكن عدد القتلى قارب الخمسمائة مقاتل من داعش وقوات سوريا الديمقراطية. هذه هي أكبر خسارة بشرية للتحالف الدولي ضد داعش وحلفاءه المحليين منذ دحر التنظيم في ٢٠١٩ في آخر معاقله في الباغوز بدير الزور بسوريا. ورغم كل جهود التحالف الدولي ضد داعش وقوات سوريا الديمقراطية، مازال عدد مقاتلي داعش في سورياً كبيراً، حيث يعتقد بوجود ١٠.٠٠٠ مقاتل على الأقل في سوريا والعراق مجتمعين، نصفهم من المحتمل أن يكونوا في سوريا بشكل عام وفي شمال شرقها بشكل أكثر كثافة من باقي المناطق السورية. وبإضافة حوالي ١٠.٠٠٠ من المقاتلين السابقين لداعش في السجون، وحوالي ٧٠.٠٠٠ من نساء وأطفال التنظيم في المعسكرات المنتشرة في شمال شرق سوريا تصبح سورياً أكبر تجمع للتنظيم في العالم. هذا التداخل بين مشكلة داعش وأزمة سوريا يبرز عمق القضية.
بعد ١١ عاماً من الحرب، مازالت سوريا تحتل بؤرة الأخبار لكل ما هو مفزع وكارثي. وضع عسكري غير مستقر نتيجة للعمليات العسكرية المستمرة لتركيا وإيران والحكومة السورية وإسرائيل، حتى لو بوتيرة منخفضة عن ذي قبل. ووضع أمني سائل نتيجة ضعف سيطرة الشرطة خارج المدن وترامي الحدود ضعيفة مع العراق والأردن. وضع إنساني متدهور نتيجة لعدم قدرة أغلبية السكان علي تلبية الاحتياجات الأساسية حتي البدائية منها مثل الماء والدواء والخبز. وضع اقتصادي لا يمكن تخيله من حيث بلوغ معدلات الفقر لأكثر من ٨٠٪ من السكان، ومعدلات البطالة لأكثر من٤٠٪ ومعدلات التضخم إلي درجة يصعب متابعتها من سرعة التدهور في سعر العملة. ووضع حوكمي متشرذم ومتسلط وغير كفؤ من حيث وجود أربع جهات ذات بني حوكمية مختلفة (الحكومة السورية، الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، الحكومة المؤقتة في شمال غرب سوريا، وحكومة الإنقاذ في إدلب) لا تنسق فيما بينها، وتعاني جميعها من نقص الموارد والكفاءات وتدهور حالة تقديم الخدمات والأمن. وضع سياسي انتقالي ممتد يسمح لقوي الأمر الواقع بالاستمرار ويحول دون أي ادماج انتقائي أو شامل في الحكم لأي منهم بانتظار الحل النهائي. هل يمكن بشكل واقعي حل كل هذه الأزمات قبل التخلص من خطر التنظيم؟
قبل الإجابة على السؤال دعنا نخطو خطوة للخلف لإدراك مكانة سوريا لدي التنظيم. فعلي الرغم من كل هذا التدهور الحاد على كل الأصعدة في سوريا، لا تمثل سوريا الجبهة الأنشط بالنسبة لداعش، حيث تسبقها العمليات في أفغانستان تليها أفريقيا (مالي، نيجيريا، أوغندا، الكونجو الديقراطية وغيرهم)، ثم تليها العراق وبعدها سوريا. تمتد القائمة بعد سوريا إلى سيناء مصر وصحراء النقب في إسرائيل، وكذلك اليمن وليبيا. تتشابه ظروف هذه الدول والمناطق مع سوريا من جهة انهيار الدولة أو فشلها من النواحي الاقتصادية والسياسية والأمنية. قد يعزي النجاح في خفض أنشطة داعش في سوريا إلى نشاط قوات التحالف الدولي وكذلك قوات سوريا الديمقراطية وتضحياتهم. الحل الأمني يبدوا ناجعاً، لكنه غير مستدام. لهذا لا يجب التعامى عن أهمية استمرار الجهود المبذولة لتحسين الأوضاع الأمنية والاقتصادية وكذلك السياسية في كل سوريا وفي شمال شرق على وجه الخصوص لضمان اختفاء خطر عودة داعش.
يهدف هذا البحث لتوضيح أهمية سوريا لتنظيم داعش دولياً، وتفصيل سياقات عمل التنظيم الأمنية والاقتصادية والسياسية في شمال شرق سوريا، وتناول التحديات التي تواجه القائمين على مواجهة التنظيم مثل التحالف الدولي والإدارة الذاتية وقسد، وختاماً سيتعرض لنقاش حول المسارات المتاحة للتعامل مع التحديات العاجلة. ولتفادي التعميم، سيحاول البحث التركيز على دير الزور كمثال يتركز فيه كل التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية. لا يعني التركيز على دير الزور تجاهل المناطق الأخرى أو كونها أقل أهمية، على العكس، هناك الكثير من نقاط التشابه بين دير الزور وغير من المدن في شمال شرق سوريا، وغربها، ووسطها، وجنوبها. سيساعد التركيز الجغرافي على توضيح الفكرة، وسيمكن من المقارنة التفصيلية مع البحوث المستقبلية على مناطق أخري. ينطلق البحث من فرضية أن الحلول الأمنية للتعامل مع الإرهاب مهمة، لكنها لا تنجح وحدها بدون فهم وتحسين السياقات الاقتصادية والحوكمية والسياسية الأوسع. اعتمد البحث على مزيج من البحوث المكتبية والمقابلات الميدانية مع خبراء ومسؤولين مستقلين، وكذلك من منطقة شمال شرق سوريا ومن التحالف الدولي ضد داعش.
خاتمة وتوصيات
مثلت السطور السابقة محاولة للإجابة علي سؤال البحث وهو هل يمكن حل مشكلة داعش بدون حل مشكلة سوريا؟ تمثل سوريا نموذجاً فريدا في مكافحة الإرهاب، حيث يتضح أن الحل الأمني هو الأنجع وربما الوحيد الممكن للتعامل مع داعش وتقليل خطرة في الوقت الحالي، لكنه ليس كافياِ. فبمقارنة أداء داعش المتواضع في سوريا مقارنة بباقي المناطق التي ينشط فيها عالميا تظهر أهمية جهود التحالف العالمي بقيادة الولايات المتحدة لوضع حد لاستعادته لمجده المفقود. تتشارك سوريا مع أفغانستان ودول أفريقية عديدة في مظاهر انهيار الدولة (خدمات متدهورة وأمن غائب وحدود طويلة متسيبة وشرعية مهلهلة ومتنازع عليها)، وعلى الرغم من ذلك فأن أداء داعش فيها أضعف من باقي المناطق الشبيهة في هذه الخصائص. لكن سوريا ستظل مهمة لداعش لأسباب رمزية وعملية عديدة، وستظل محاولاته لتقوية نفوذه هناك رغم كل الجهود الدولية والمحلية. هذا يعني عدم التراخي في محاربة التنظيم أمنياَ وعسكرياً، و كذلك بذل جهد أكبر لتقليل جاذبيته لدي الشباب وتقليل الموارد المالية المتاحة له لاستطالة نفسه المتقطع. يكون هذا بزيادة شرعية البني السياسية وتدعيم قدرات المؤسسات الخدمية وعدم التواني عن التوصل لحل سياسي شامل للنزاع القائم في سوريا رغم التحديات الجمة.
هناك العديد من السيناريوهات للمستقبل السياسي للمنطقة والتي ستؤثر بشكل كبير على قدرات مكافحة داعش. أولها وأكثرها احتمالاً هو استمرار وجود قوات التحالف الدولي، وأيضاً استمرار الوضع المشرذم كما هو عليه لفترة من الزمن. هذا السيناريو يضمن وجود قوة لردع داعش، لكن لا يضمن نشوء مؤسسات ذات شرعية وقدرة متحسنة نسبياً على تقديم الخدمات والأمن بشكل متساوي. السيناريو الثاني هو مغادرة قوات التحالف الدولي، واستعادة النظام السوري السيطرة على شمال شرق سوريا، وربما أجزاء من شمال غربها في حال التوصل لاتفاق مع تركيا ومغادرتها الكلية أو الجزئية. هذا السيناريو قد يساعد في تشكيل أفق سياسي أفضل، لكن ينذر بفوضى عابرة للحدود مع فقدان القدرة على الردع العسكري والضبط الأمني لشمال شرق سوريا بحدودها الممتدة مع العراق وكذلك الأردن.
من الصعب فصل مشاكل سوريا كنزاع مفتوح عن مشكلة نشاط داعش فيها وتأثيراته العالمية. في ظل عدم وجود حل سياسي وفقدان الحد الأدنى من الأمن والبنية التحتية، سيصعب على المانحين الدوليين التركيز علي تحسين الوضع الاقتصادي في شمال شرق سوريا. يخشى الكثيرون من ردود الفعل الغاضبة المتوقعة من تركيا والحكومة السورية وإيران وكذلك روسيا. علي الرغم من ذلك، يجب على المانحين الاستمرار في دعم الجهود الرامية لتحسين تمثيل المؤسسات للتنوع المجتمعي، تقوية قدراتها على تقديم الخدمات وجمع الإيرادات، وكذلك دعم المصالحة المجتمعية.
لكن إذا كانت هناك قدرة على الاختيار فيما يتعلق بسياسة مكافحة داعش، فيجب العمل على تقليل أخطار السجون والمخيمات التي تمثل مركز تجمع هائل للتنظيم وهدفاً في حد ذاته لأنشطته في سوريا. إذا تم تقليل عدد سكان المخيمات من العراقيين والسوريين والذين يتمثلون أكثر من نصف القاطنين سيمثل هذا انجازاً كبيراً وتقليلاً لمخاطر كبيرة. يلي ذلك في الأهمية توفير مخرج أمن وكريم للأطفال واليافعين الذين يتمثلون أكثر من ٧٠٪ من سكان المخيمات. يعني ترك هؤلاء الأطفال في المخيمات بدون تعليم ورعاية صحية وبدون فرصة لاستكشاف بدائل أفضل لمستقبلهم أن داعش ستصبح هي الحاضن الوحيد الذي يمكن أن يستقبلهم ويعطيهم معني للحياة بعد ما أغلقت أمامهم كل الأبواب.